من أخطر ما يصد الإنسان عن سعادتي الدنيا والآخرة
ميولاته وشهواته المنفلتة من عقال الإيمان المتحررة من حكمة العقل، وما
أكثر ما نشاهده اليوم من مظاهر اغتيال العقل وتأجيج نار الشهوات عبر مناهج
سلطوية مدروسة ومخططات إبليسية يتواطأ فيها الداخل والخارج تستهدف شبابنا
ونساءنا بل وأطفالنا لصرفهم عن الرجولة والرشد وبناء الوطن إلى مهاوي
الرذيلة وقتل القيم وتقويض الوطن. وها هي دولتنا، "حامية الملة والدين"!،
عوض أن ترقى بأوضاع الناشئة عبر إرساء ثقافة بانية متحصنة بإسلامها وإفساح
مجالات التواصل الحقيقي مع بناة الحاضر والمستقبل لاستثمار قدراتهم العلمية
والعملية، تكرس عكس ما تلوكه من شعارات ثقافة هابطة ، ومن بين ما يدل على
ذلك ما تنظمه الدولة من مهرجانات لا ترقى إلى مستوى ما تدعيه من فنية
وإبداع ما دامت لا تخاطب في الناس إلا غرائزهم لتظل بذلك بعيدة عن التعبير
عن هموم الشعب وآماله واحترام هويته.
بتأثير شهواته ينحرف الإنسان ويشرد عن
الكرامة وأخلاق الإنسانية الكامنة فيه.
فما طبيعة هذه الشهوة وما خطرها وما علاجها؟
ذلكم بعض من الأسئلة التي سنجيب عليها في هذا الموضوع.
الشهوة هي كل ما تهواه النفس وتميل إليه ضارا
كان أو نافعا.
تطلق الشهوة على المصدر أي الفعل، كما تطلق على
الأمر المشتهى وهو المفعول.
قال ابن تيمية: "الشهوات
جمع شهوة والشهوة هي في الأصل مصدر ويسمى المشتهى شهوة تسمية للمفعول
باسم المصدر قال تعالى (ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلا عظيما)"
[1]، وقد ذكر الله لنا أنواعاً
من الشهوات التي جبلت النفوس على محبتها، وهي:
قال تعالى: ﴿
زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ
وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ
الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ
الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ﴾
ففي الآية ذكر أنواع من الشهوات، وهي: النساء،
والبنين، والأموال، والحيوان، والحرث.
قدّم الله أشد الشهوات وأقوى الفتن وهي
النساء، فإن فتنتهن أعظم فتن الدنيا. ثم ذكر البنين المتولدين من النساء.
ثم ذكر شهوة الأموال لأنها تقصد لغيرها فشهوتها شهوة الوسائل وقدم أشرف
أنواعها وهو الذهب ثم الفضة بعده. ثم ذكر الشهوة المتعلقة بالحيوان الذي لا
يعاشر عشرة النساء والأولاد فالشهوة المتعلقة به دون الشهوة المتعلقة بهم،
وقدم أشرف هذا النوع وهو الخيل فقدمها على الأنعام التي هي الإبل والبقر
والغنم. ثم ذكر الأنعام وقدمها على الحرث لأن الجمال بها والانتفاع أظهر
وأكثر من الحرث[2].
• ومن الشهوات أعراض قلبية مركوزة في
النفس البشرية: كالعجب والخيلاء، والقهر والاستعلاء، والغضب، وحب الثناء
والمدح، وحب الميل إلى النوم، والإخلاد إلى الراحة
وهذه الأعراض مما لا يكاد يسلم منه إلا من عصم
الله فمقل ومكثر.
• ومنها: حب الرئاسة فإنه الشهوة الخفية، كما
قال شداد بن أوس رضي الله عنه يا بغايا العرب إن أخوف ما أخاف عليكم الرياء
والشهوة الخفية. قيل لأبي داود: ما الشهوة الخفية قال حب الرئاسة[3].
وخلق الله الإنسان وجعل له عقلا وشهوة،
فمن غلب عقله شهوته فهو مع الملائكة، ومن غلبت شهوته عقله فهو كالبهائم.[4]
حكمة تركيب
الشهوة في الإنسان
من حكم تركيب الشهوة في الإنسان التي ذكرها العلماء
نذكر:
1) الإقبال على
الله بالتوبة والذل بين يديه:
قال ابن القيم رحمه الله: العبد قد بلي بالغفلة والشهوة
والغضب، ودخول الشيطان على العبد من هذه الأبواب الثلاثة، فإذا أراد الله
بعبده خيرا فتح له من أبواب التوبة والندم والانكسار والذل والافتقار
والاستعانة به وصدق اللجأ إليه ودوام التضرع والدعاء و التقرب إليه بما
أمكن من الحسنات ما تكون تلك السيئة به رحمة، حتى يقول عدو الله: يا ليتني
تركته ولم أوقعه.
وهذا معنى قول بعض السلف: إن العبد
ليعمل الذنب يدخل به الجنة ويعمل الحسنة يدخل بها النار. قالوا: كيف؟ قال:
يعمل الذنب فلا يزال نصب عينيه منه مشفقا وجلا باكيا نادما مستحييا من ربه
تعالى ناكس الرأس بين يديه منكسر القلب له فيكون ذلك الذنب أنفع له من
طاعات كثيرة بما ترتب عليه من هذه الأمور التي بها سعادة العبد وفلاحه حتى
يكون ذلك الذنب سبب دخوله الجنة . ويفعل الحسنة فلا يزال يمن بها على ربه
ويتكبر بها ويرى نفسه ويعجب بها ويستطيل بها ويقول: فعلت وفعلت فيورثه من
العجب والكبر والفخر والاستطالة ما يكون سبب هلاكه.[5]
2) طلب اللذة
التامة في الآخرة:
لأن الإنسان إذا أدرك شيئاً من لذات الدنيا قاس عليه من
باب أولى اللذة التامة في الآخرة فيعظم طلبه لها.
3) الابتلاء
والاختبار:
قال ابن القيم رحمه الله تعالى: فلم تقو عقول الأكثرين
على إيثار الآجل المنتظر بعد زوال الدنيا على هذا العاجل الحاضر المشاهد،
وقالوا: كيف يباع نقد حاضر وهو قبض باليد بنسيئة مؤخرة وُعِدنا بحصولها بعد
طي الدنيا وخراب العالم، ولسان حال أكثرهم يقول: خذ ما تراه ودع شيئا سمعت
به.
فساعد التوفيق الإلهي من علم أنه يصلح
لمواقع فضله فأمده بقوة إيمان وبصيرة رأى في ضوئها حقيقة الآخرة ودوامها
وحقيقة الدنيا وسرعة انقضائها.[6]
ولهذا سئل عمر بن الخطاب: أيمها أفضل؟
رجل لم تخطر له الشهوات ولم تمر بباله، أو رجل نازعته إليها نفسه فتركها
لله؟ فكتب عمر: إن الذي تشتهي نفسه المعاصي ويتركها لله عز وجل من الذين
امتحن الله قلوبهم للتقوى لهم مغفرة وأجر عظيم.[7]
4) تكثير النسل وحفظه:
قال ابن القيم رحمه الله تعالى في آدم وحواء: "ثم لما أراد الله سبحانه أن يذرّ نسلهما في الأرض
ويكثره وضع فيهما حرارة الشهوة ونار الشوق والطلب وألهم كلا منهما اجتماعه
بصاحبه فاجتمعا على أمر قد قدر."
[8]
نتائج اتباع الشهوة
1) مرض القلب:
ومرض القلوب نوعان مرض شبهة وشك، ومرض شهوة وغي
وكلاهما في القرآن قال تعالى في مرض الشبهة ﴿
في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا﴾
وأما مرض الشهوات فقال تعالى ﴿ يا نساء النبي لستن كأحد من النساء إن اتقيتن فلا تخضعن
بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض﴾
فهذا مرض شهوة الزنا[9].
الأسير هو أسير شهوته وهواه، ومتى أسرت
الشهوة والهوى القلب تمكن منه عدوه وسامه سوء العذاب وصار كعصفور في كف طفل
يسومها حياض الردى والطفل يلهو ويلعب.[10]
2) الابتعاد عن الحق:
قال تعالى في قوم لوط ﴿ لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون﴾
.
وهذا السكر أشد من سكر الخمر، فإن سكر
الخمر يكون يوما أو قريبا من يوم، وأما سكر الشهوة والمحبة الفاسدة فقوي
دائم، وقد يصل إلى الجنون[11]
قالت جننت على رأسي فقلت لها
العشق أعظم مما بالمجانين
العشق ليس يفيق الدهر صاحبه
وإنما يصرع المجنون في الحين
3) الكفر والخروج عن الدين:
فإن الشهوة خطوة من خطوات الشيطان التي يتدرج بالعبد عن
4) الحجب عن الرب جل وعلا:
قلب العبد لما تتحكم به الشهوة فإنها تحجبه عن ربه جل
وعلا فيصبح رهينة نفسه الأمارة بالسوء حتى لا يعرف معروفا أو ينكر منكرا،
وهذا رأس الخذلان والجفاء بينه وبين الله، وإن أراد الله عصمت عبده نغص
عليه الشهوة وحال بينه وبين اللذة المحرمة حتى لا تكون حجاباً بينه وبينه.[12]
5) إدمان الشهوة وتعلق القلب بها:
مدمنو الشهوات يصيرون إلى حالة لا يلتذون بها وهم مع
ذلك لا يستطيعون تركها.
ولهذا ترى مدمن الخمر والجماع لا يلتذ
به عشر معشار التذاذ من يفعله في بعض الأحيان.[13]
6) الغفلة عن ذكر الله والصلاة:
"لأن العبد إذا قهر شهوته وهواه قوي قلبه على
الصلاة والخشوع فيها، وهذا بخلاف من قهرته الشهوة وأسره الهوى ووجد الشيطان
فيه مقعدا فإنه لا يمكن أن يتخلص من الوساوس والأفكار."
[14]
7) الشقاء والحسرة في الدنيا:
فيا حسرة المحب الذي باع نفسه لغير الحبيب الأول بثمن
بخس وشهوة عاجلة ذهبت لذتها وبقيت تبعتها.[15]
وما في الأرض أشقى من محب
وإن وجد الهوى حلو المذاق
تراه باكيا في كل حين
مخافة فرقة أو لاشتياق
فيبكي إن نأوا شوقا إليهم
ويبكي إن دنوا حذر الفراق
العقوبة عند الموت:
شهوات الدنيا فى القلب كشهوات الأطعمة في المعدة، وسيجد
العبد عند الموت لشهوات الدنيا في قلبه من الكراهة والنتن والقبح ما يجده
للأطعمة اللذيذة إذا انتهت إلى غايتها.[16]
9) العقوبة في البرزخ:
وفي حديث سمرة بن جندب الذي في صحيح البخاري أن النبي
قال رأيت الليلة رجلين أتياني فأخرجاني فانطلقت معهما فإذا بيت مبني على
مثل بناء التنور أعلاه ضيق وأسفله واسع يوقد تحته نار فيه رجال ونساء عراة
فإذا أوقدت النار ارتفعوا حتى يكادوا أن يخرجوا فإذا أخمدت رجعوا فيها فقلت
من هؤلاء قال هم الزناة.
الجزاء من جنس العمل، فهؤلاء كانوا في
الدنيا كلما هموا بالتوبة والإقلاع والخروج من تنور الشهوة إلى فضاء
التوبة عادوا إليه فكان هذا عذابهم في تنور الآخرة.[17]
10) العذاب في النار:
في الحديث "حفت النار بالشهوات، وحفت الجنة بالمكاره
تاريخ النشر: الجمعة 28 ماي/أيار 2010
[1] | مجموع الفتاوى ج: 10 ص: 571. |
[2] | بدائع الفوائد ج: 1 ص: 85. |
[3] | رسالة في التوبة ج: 1 ص: 233. |
[4] | عدة الصابرين ج: 1 ص: 15. |
[5] | الوابل الصيب ج: 1 ص: 14. |
[6] | شفاء العليل ج: 1 ص: 265. |
[7] | الفوائد ج: 1 ص:110. |
[8] | التبيان في أقسام القرآن. ج: 1 ص: 205. |
[9] | زاد المعاد 4 / ص 5. |
[10] | روضة المحبين ج: 1 ص: 103. |
[11] | قاعدة في المحبة ج: 1 ص: 83. |
[12] | مدارج السالكين لابن القيم ج: 2 ص: 454. |
[13] | روضة المحبين لابن القيم ج: 1 ص: 470. |
[14] | الوابل الصيب لابن القيم ج: 1 ص: 40. |
[15] | إغاثة اللهفان لابن القيم ج: 2 ص: 122. |
[16] | عدة الصابرين ج: 1 ص: 195. |
[17] | روضة المحبين لابن القيم ج: 1 ص: 442. |