تحت ظل النبي صلى الله عليه وسلم (10)
لَمَحات في سيرة النبوة من خلال بردة الإمام البصيري
للأستاذ محمد العربي أبوحزم
الفهرس
استهلال
ذاتُ العِلل
الْمُصْطَفَوْنَ الأخيارُ
استهلال
خلق الله الخلق ليعبدوه، لتتحركَ أفئدتهم لمعرفته، ولتخفقَ قلوبهم بمحبته، وتأنسَ أرواحهم بقربه، وتتوتَّرَ بالتعلُّق به تعالى، وتكدحَ إليه كدْحاً، وتَزْرَعَ في الدنيا بَذْرَ ما تجد ثمرتَه في الآخرة.
وقد أخذ ربنا عز وجل من بني آدم العهد الفطري أن يُفْرِدُوه بالعبادة ويخلصوا له القصد؛ ذاك حين قال عَزَّ مِن قائل: ﴿ وَإِذَ اَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّاتِهِمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ: أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ؟ قَالُوا: بَلَى، شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ﴾ .
واصطفى سبحانه من خلقه خِيرَتَهُم أنبياءَ ومرسَلينَ لِيُشْرِفُوا على هذه المهمة العظيمة: تقريبِ الخلق إليه تعالى وتحبيبِهم فيه وتذكيرِهم بلقائه المحتوم ﴿ يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوَ اَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً﴾ .
ابتعث الله الأنبياء والمرسلين، وجعل مدار مهمتهم النبيلة على إصلاح نفوس خلقه وتزكيتها؛ وجعل مدار الصلاحِ فيهم والخيريةِ على استعدادهم واستجابتهم لطِبِّ مَنْ عُلِّمُوا أسرار معاملة النفس وتزكيتها.
وتوَّجَ سبحانه قافلةَ الأنبياء والمرسلين الدالِّين عليه تعالى بأحب الخلق إليه: محمد بن عبد الله، من جَدَّدَ اللهُ به الدين ونسخ به الشرائع، وأَمدَّه من نوره ومن رحمته بما يسع العالمين إلى قيام الساعة وساعةَ الساعة، وأيَّده بوحي من
﴿ الكتاب والحكمة﴾ جعلهما سبحانه ترياقاً خالداً شافيا لذوات العلل.
ذاتُ العِلل
يسترسل الشاعر المحب في هذا الفصل في اعترافاته، فينتقل من الْبَوْحِ بشدة ما به من هوىً وجوىً إلى البوح بِعِلَلِ نفسه التي أصَمَّتْهُ عن سماع نصح الشيب الناطق بالصدق:
إِنِِّي اتَّهَمْتُ نَصِيحَ الشَّيْبِ فِي عَذَلٍ
وَالشَّيْبُ أَبْعَدُ فِي نُصْحٍ عَنِ التُّهَمِ
[1]
وهذه هي شيمةُ نفسِ ابنِ آدمَ الأمَّارةِ بالسوء، لا تتعظ لنصح أَمِينٍ، ولا ترتدع لنُذُرِ نذير، ولا تستجيب لِمُنَادٍ إلا ما ناداها مِنْ قِبَلِ هواها، ولا تكاد تنقطع أمانيها الدَّنِيَّةُ حتى ينقطع منها النَّفَسُ.
فَإِنَّ أَمَّارَتِي بِالسُّوءِ مَا اتَّعَظَتْ
مِنْ جَهْلِهَا بِنَذِيرٍ الشَّيْبِ وَالْهَرَمِ
وَلاَ أَعَدَّتْ مِنَ الْفِعْلِ الْجَمِيلِ قِرَى
ضَيْفٍ ألَمَّ بِرَأْسِي غَيْرَ مُحْتَشِمِ
[2]
وأين ما أعدت هذه النفس مما يُكْرَمُ به ضيفٌ ليس من شِيَمِه الاحتشام؟ ضيفٌ لا يغادر إلا ويده في يد مُضَيِّفِه، بل وهو آخذ بناصية روحه يَنْتَزِعُهَا منه انتزاعاً يسوقها إلى مصيرها المحتوم.
لَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ أَنِّي مَا أُوَقِّرُهُ
كَتَمْتُ سِرّاً بَدَا لِي مِنْهُ بِالْكَتَمِ
[3]
لو كنت أعلم أني مستهين بهذا الشيب المشتعلِ به الرأسُ لأطفأت أُولَى شراراته بالخضاب قبل أن تَعُمَّ وتستفحل.
مَنْ لِي بِرَدِّ جِمَاحٍ مِنْ غَوَايَتِهَا
كَمَا يُرَدُّ جِمَاحُ الْخَيْلِ بِاللُّجُمِ؟
[4]
مَنْ يعينني على نفسي وهي الفرس الْجَمُوحُ المنفلتة المتفلتة لا يَزَعُهَا وازع؟
من يُلْجِمُهَا بلجامها؟
مَنْ يأخذ بيديها في دنياها الموحشة؟
من يَرْقِيها من تعس أدوائها ويُرَقِّيها في درجات كمالها؟
من؟ ومن؟ ومن؟
الْمُصْطَفَوْنَ الأخيارُ
تتلمذ البوصيري على يد أحد الرجالات الوارثين -بالسند الصحيح- طرائقَ تربيةِ النفس وأساليبَ تقويـمِها ووسائلَ تهذيبِها وقواعدَ إصلاحها وترقيتها؛ فهو لهذا يدرك من هذه القواعد ما فتح له المولى مما عُلِّمَه ولُقِّنَه بين يدي طبيب مُجَرِّبٍ خبير. ذاك أنه لا يستطيع كلُّ من قرأ حرفا من كتاب أو طال لسانُه بلحن القول بين الناس أو نال حظا من وجاهة -و"أَنَاهُ" ترتع في نفسه وتعشش- أن يقوم مقام الطبيب يصف الدواء لعلل النفوس وهو لم يَتَرَبَّع ساعةً بين يدي طبيب خبير!
وهل هان ميراث النبوة -حاشاه- حتى يَدَّعِيَ كلٌّ حظّاً منه فيزعمَ الخبرةَ بأسرار النفوس وتطبيبها؟
هو عِلْمٌ يصطفي له الفتاح العليم من خيرة عباده من شاء منهم، ويسلك بهم في عالم الأسباب خير المسالك حتى يقوموا من هذا العلم مقام حامل أسرارِه ومالكِ مفاتيحه.
هؤلاء هم الْمُصْطَفَوْنَ الأخيارُ المخصوصون بقواعد هذا العلم وأسراره يؤيدهم بها المولى تأييدا.
تاريخ النشر: الخميس .28 ماي/أيار2009
نقلا عن موقع جماعة العدل والاحسان
www.aljamaa.com