بقلم: العربي أبو حزم
تحت ظل النبي صلى الله عليه وسلم (11)
لَمَحات في سيرة النبوة
النصح الأمين
حامَ الإمام البوصيري في الفصل الأول من بردته حول معاني الصحبة يُحْيِي فينا معانِيَها بِسِرِّهَا ولُبِّ لُبِّهَا وهو "المحبة". وفي هذا الفصل ينصحنا هذا الرجل المبارك ويَنْضَحُنَا بِنَدىً من الوظيفة العظمى لصحبة وارثِي العلمِ النبويِّ وهي تطبيبُ القلوبِ وتصفيتُها وترقيتُها في مراقي الدين: الإسلامِ فالإيمانِ فالإحسانِ.
خُتِمَت النبوة بِخَاتِمِهَا وخَاتَمِهَا الشريف عليه وعلى آله من الله أزكى صلاة وأطيب سلام، وانقطع الوحي ولم تبق منه إلا الرؤيا الصالحة يراها المؤمن أو تُرى له، وبقي ميراث النبوة العظيم، "عِلْمُ الكتاب والحكمة"، فمنه يستقي العلماء وبه يستنير الحكماء.
فهل لنا من أسرار هذا العلم لُمَعٌ نستأنس بها ونستنير في ظلمات الطريق؟
يجيبُ البوصيري رحمه الله على لسان اللاَّئم الناصح الموجِّه الخبير بالنفس ودائها ودوائها:
فَلاَ تَرُمْ1 بِالْمَعَاصِي كَسْرَ شَهْوَتِهَا
إِنَّ الطَّعَامَ يُقَوِّي شَهْوَةَ النَّهِمِ2
فالذي يرى إدمانك على المعاصي وتماديك في الغفلات يحسب من شدة حرصك عليها وانغماسك في أعماق ظلماتها أنك إنما تطلب بها كسر شهوات نفسك، والحال أنه ما للشهوات مِنْ وقود مأثور وما للأهواء من مُؤَجّجٍ مستور كالمعاصي. وكما أن الإسراف في الطعام يزيد في قوة الرغبة في الملذات فإن الإسراف في المعصية يزيد في قوة الرغبة في سلوك دروبها.
إنما تَقْوَى شوكةُ النفس بالمعاصي والغفلات حتى تستأسد عليك. وما لك من منجىً إلا في طاعة الله وذكره. ومن استأنس في عمره بمعصيته تعالى والغفلة عنه سبحانه فإن الرُّجْعَى إلى صراط المنعَم عليهم تكاد تستعصي مع كل خطوة تخطوها في لجج المعصية وظلمات الغفلة:
وَالنَّفْسُ كَالطِّفْلِ إِنْ تُهْمِلْهُ3 شَبَّ عَلَى
حُبِّ الرَّضَاعِ وَإِنْ تَفْطِمْهُ يَنْفَطِمِ
وما أحوج الطفل الصغير إلى والد معلِّمٍ مُرَبٍّ مُزَكٍّ. أَمْ إن الطفل قمينٌ بتعليم وتزكية وتربية نفسه بنفسه؟!
وقد قيل: التعليم في الصغر كالنقش على الحجر؛ والتعليم في الكبر كالنقش على الماء!
فالْتَمِسْ من ينقش بزينة الإيمان على ذات نفسك بمنقاش الرحمة الموروثة وأنت بَعْدُ في طفولة نفسك قبل أن يتسع الخرق على الرَّاقع فَتَسْتَصْعِبَ الفطام. ولاتَ حين فطام.
فَاصْرِفْ هَوَاهَا وَحَاذِرْ أَنْ تُوَلِّيَهُ4
إِنَّ الْهَوَى مَا تَوَلَّى يُصْمِ5 أَوْ يَصِمِ6
كُنْ أنتَ الوالِيَ على رَعِيَّةِ نفسك الحاكمَ فيها بأمر الله لا بأمرها هي، فـ"كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ"، واصرف هواها إلى ما جاء به الحق لا إلى ما تجيء هي به من باطل. فإن وَلَّيْتَ نفسَكَ عليك قَتَلَتْكَ أو عابتك.
وَرَاعِهَا7 وَهْيَ فِي الأَعْمَالِ سَائِمَةٌ8
وَإِنْ هِيَ اسْتَحْلَتِ9 الْمَرْعَى فَلاَ تُسِمِ10
راقبها وخذ لها حَظَّها مما يُصلح شأنَها، ولا يَطُولَنَّ عليها الأمد فيما تَسْرَح، فإذا اسْتَأْنَسَتْ بالراحة والسكون والركون إلى الدنيا فَحَرِّكْ منها ما ركَد لِئَلاَّ يَأْسَن ماء الحياة في قلبك.
كَمْ حَسَّنَتْ لَذَّةً لِلْمَرْءِ قَاتِلَةً
مِنْ حَيْثُ لَمْ يَدْرِ أَنَّ السُّمَّ فِي الدَّسَمِ
وهذا من عمل الشيطان: أن يُزيِّن للمرء سوءَ عمله ليراه حسنا. وإن هو إلا مَأْتَمُه وإن كان ظاهرُه عرساً.
وَاخْشَ الدَّسَائِسَ11 مِنْ جُوعٍ وَمِنْ شِبَعٍ
فَرُبَّ مَخْمَصَةٍ12 شَرٌّ مِنَ التُّخَمِ13
وإنه مما يلبس الشيطان على المرء أن يدخل عليه من باب الطاعة لأنه أبعد الأبواب عن الشبهة وآمنُها لديه. وهي دَسِيسَةٌ أن يتوهم العبد أن الجوع أَصْلَحُ للنفس في جميع الأحوال من شِبَع يَفْسُدُ معه الطعام في المعدة.
وَاسْتَفْرِغِ الدَّمْعَ مِنْ عَيْنٍ قَدِ امْتَلأَتْ
مِنَ الْمَحَارِمِ وَالْزَمْ حِمْيَةَ النَّدَمِ14
ولا يغسل العينَ من آثامها شيءٌ كما تغسلها الدموع، ولا يطهِّر القلب من أدرانه ولا يحفظه شيء كما يطهره ويحفظه الندم والانكسار والاستغفار ولزوم باب التوبة والأوبة والإنابة إلى رحاب الغفور الرحيم.
وَخَالِفِ النَفْسَ وَالشَيْطَانَ وَاعْصِهِمَا
وَإِنْ هُمَا مَحَضَاكَ النُّصْحَ فَاتَّهِمِ
والأصل في النفس، وهي الأمارة بالسوء، ألا تأمر بخير، وألا تدعو وَالِيَهَا عليها وصاحبها إلا إلى الهاوية. والأصل في الشيطان ألا يَدُلَّ قرينَه إلا على الهلاك المبين. ومخالفةُ أَشَدِّ عَدُوَّيْنِ لابن آدم -نفسِه التي بين جنبية وقرينِه الوسواس- هي المنجاة منهما وإن لَبِسَا لَبُوس الناصح الأمين. والخصمُ منهما والحكَمُ في الضرر سواء.
وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمَا خَصْماً وَلاَ حَكَماً
فَأَنْتَ تَعْرِفُ كَيْدَ الْخَصْمِ وَالْحَكَمِ
استـدراك
غير أن هذا اللاَّئِمَ يستدرك ويُصَوِّبُ سِهَامَ اللوم على نفسه بَدَلَ صاحبه. وهي نفسٌ أقسم المولى تعالى بفضيلةِ شِدَّةِ لومها لصاحبها:
أَسْتَغْفِرُ اللهَ مِنْ قَوْلٍ بِلاَ عَمَلٍ
لَقَدْ نَسَبْتُ بِهِ نَسْلاً لِذِي عُقُمِ
يستهلُّ استدراكَه على نفسه بالاستغفار من قول لا يَهْتِفُ بعمل يترجمه ويصدِّقُه ويزكيه. ومن نَسَبَ إلى نفسه علماً لا رصيد له من العمل كان كمن نسب مولوداً إلى عقيم.
أَمَرْتُكَ الْخَيْرَ لَكِنْ مَا أْتَمَرْتُ بِهِ
وَمَا اسْتَقَمْتُ فَمَا قَوْلِي لَكَ اسْتَقِمِ؟
وما عُذري بين يدي رب العالمين وأنا آمرك بما لا أَأْتَمِرُ به؟
وما حُجَّتِي وأنا لا أنتهي عما أنهاك عنه؟
أدعوك إلى الاستقامة ونفسي عن صراط المنعَم عليهم مائلةٌ مُمِيلَة؟
وإن طرق الصالحون باب ربهم في ظلمة الليل البهيم يغسلون في خلواتهم ما بأضلعهم بماء أعينهم أَلْفَيْتُ نفسي في ظلمات غيها غارقةً مسترسلة.
وَلاَ تَزَوَّدْتُ قَبْلَ الْمَوْتِ نَافِلَةً
وَلَمْ أُصَلِّ سِوَى فَرْضِي وَلَمْ أَصُمِ15
فأيَّ زاد أُقدم بين يَدَيِ الهاتف المنادي بِحَيْعَلَةِ الرحيل القريب إن كان حظي من الخير على الفريضة مقتصرا، ومن النوافل خاليا وإلى أنوارها مفتقرا؟
اللغة:
1- لا تَرُمْ: لا تَطْلُب.
2- النَّهِم: الشَّرِهُ شديد الشهوة إلى الطعام.
3- تُهْمِلْه: تتركه دون رعاية.
4- حاذِر أن تُوَلِّيَه: اِحْتَرِس أن تجعله لك وليّاً.
5- يُصْمِ: من أَصْمَى يُصْمِي أي: يقتل.
6- يَصِمُ: يَعِيب.
7- راعِها: رَاقِبْهَا.
8- سائمة: من السَّوم، وهو الرعي في الكلأ.
9- اِسْتَحْلَتْ: أَلِفَتْ.
10- لا تُسِم: لا تَرْعَ.
11- الدسائس: جمع دسيسة، وهي الْمَكِيدَة.
12- الْمخمصة: الجوع.
13- التُّخَم: فساد الطعام في المعدة.
14- الْحِمْيَة عن الشيء: الاِمتناع عنه.
15- يقصد: ولم أصل ولم أصم سوى المفروض عليّ.
تاريخ النشر: الإثنين 15 يونيو/حزيران 2009