تحت ظل النبي صلى الله عليه وسلم (12)
لمحات في سيرة النبوة
بقلم: محمد العربي أبو حزم
الفهرس
ميراث النبوة
وظيفة النبوة
الوظيفة المتجددة
ميراث النبوة
﴿ الكتاب والحكمة﴾ ميراث النبوة الموروثُ "كابراً" عن "كابر"، "قَلْباً" عن "قَلْب"؛ فهل هي قراطيسُ أتلوها أنا وتتلوها أنتَ وتَتْلِينَهَا أنتِ، فأتعلم أنا وأتزكَّى وتتعلم أنتَ وتتزكّى وتتعلمين أنتِ وتتزكَّيْنَ مُسْتَغْنِينَ عن الطبيب الخبير بالنفوس الذي يَصِفُ من ﴿الكتاب والحكمة﴾ عقاقيرَ مداويةً بحسب طبيعةِ عِلَّةِ كلِّ نفس وحالتها ودرجتها؟
في صيدلية ﴿الكتاب والحكمة﴾ عقاقيرُ وأدويةٌ لكل داء من أدواء النفوس، فما أنزل الله تعالى مع هبوط آدم إلى الأرض داءً إلاَّ وأنزل مع خاتم أنبيائه دواءَه. ولكن هل أستطيع وأنا لا علم لي بالطب وفنونِه ولا بالعقاقير وأنواعِها ونِسَبِهَا ومقاديرِها ومواقيتها أن أختار لِعِلَلِي ما يناسبها من أدوية بِأنواعها ونِسَبِهَا ومقاديرها ومواقيتها اللازمة للعلاج؟
فإن تعلمتُ وتزكيتُ وأنا فرد واحد، فمَن لهذه الأمةِ الْمُنَجَّمَةِ يُعلِّمُهَا الْعِلْمَ الجامعَ ويزكِّيها التزكية الجامعة وَيَجْمَعُ شتاتَها ويَلُمُّ شعثَها ويُوحِّد فُرقتَها لتكون قمينةً بالخيرية حقيقةً بالشهادة على الناس؟
﴿ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ﴾ : يزكيهم ويعلمهم أفراداً وجماعةً؛ ﴿ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ﴾ : يخرجهم من ظلمات الضلال الفردي ومن ظلمات الضلال الجماعي إلى نور الهداية الفردية ونور الهداية الجماعية.
روى الطبراني بإسناد حسن عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه مرّ بسوق المدينة فوقف عليها فقال: يا أهل السوق ما أعجزكم؟! قالوا: وماذاك يا أبا هريرة؟ قال: ذاك ميراث رسول الله صلى الله عليه وسلم يُقْسَمُ وأنتم هاهنا؟! ألا تذهبون فتأخذون نصيبكم منه؟! قالوا: وأين هو؟ قال: في المسجد. فخرجوا سراعا ووقف لهم أبو هريرة حتى رجعوا فقال لهم: ما لكم؟ فقالوا: يا أبا هريرة، قد أتينا المسجد فدخلنا فيه فلم نر فيه شيئا يُقسم! فقال لهم أبو هريرة: وما رأيتم في المسجد أحدا؟ قالوا: بلى، رأينا قوما يصلون وقوما يقرؤون القرآن، وقوما يتذاكرون الحلال والحرام، فقال لهم أبو هريرة: وَيْحَكُمْ، فذاك ميراث محمد صلى الله عليه وسلم!
ذَكَّرَ أبو هريرة رضي الله عنه الناسَ بما يُتَدَاوى به من علل النفوس، مما هو من لُبِّ الدين وهو الاجتماع على الله تعالى في مجالس العلم والذكر المحفوفة بسكينته وبرحمته حيث رياضُ أُنْسِه. وسمى ما اجتمع عليه المؤمنون في المسجد: "ميراث رسول الله صلى الله عليه وسلم" الذي حَرَصَ هذا الصحابي الجليل على تذكير إخوانه من الصحابة ومن التابعين بفضائل الاِنتفاع به وبأمانة حفظه الموكولة إلى كل جيل إلى قيام الساعة.
وما ميراث النبوة إلاَّ ما أهاب أبو هريرة بالناس للاجتماع عليه والتعرض لنفحاته، وما لُبُّ هذا الدين غيرُ ما خلق الله الخلق لأجله: ﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالاِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ﴾ ، وما جوهرُ الرسالة سوى ما تَوَاتَرَ من شعار الأنبياء والمرسلين: ﴿ َمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ يُوحَى إِلَيْهِ أَنَّهُ: لآ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ﴾ .
قد كان الصحابة الكرام رضي الله عنهم يَحْيَوْنَ تحت عين طبيبهم صلى الله عليه وسلم، يسقي قلوبَهم ويتعهد غَرْسَهم ويُشَذِّبُ ويهذِّبُ المستطيلَ من أغصان نفوسهم تحت مظلة الوحي يَتَنَزَّلُ غضّاً طريّاً نديّاً، فكيف تتحقق مهمته صلى الله عليه وسلم فينا ونحن من الْـ ﴿ وَآخَرِينَ﴾ الذين ﴿ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ﴾ من إخوانه الذين لم يَرَهُمْ؟
وظيفة النبوة
أَعْلَمَنَا ربُّنا عز وجل وعلَّمَنَا أنه بعث رسوله تالياً لآياته مُزكيا لعباده مُعَلِّماً إياهم، وأنه صلى الله عليه وسلم نعمةٌ عظيمة ذَكَّرَنَا سبحانه بما ينبغي أن نقابلها به مِنْ ذِكْرٍ له تعالى وشُكْرٍ ليزيد من نعمه علينا فَيَذْكُرَنَا هو سبحانه: ﴿ كَمَآ أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ، فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ﴾ .
وجاوز سبحانه بالمؤمنين مجرد تذكيرهم بوجوب شكر هذه النعمة إلى الْمِنَّةِ بها عليهم: ﴿ لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُومِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ اَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ﴾ .
مِنَّةٌ عظيمة على عامّة المؤمنين سابِقِهِم ولاحِقِهم: ﴿ هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الاُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ، وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ، ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُوتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ﴾ .
فأما السابقون ففازوا بالصحبة المباشرة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأما الآخَرون الذين ﴿لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ﴾ فنَسَبَهُم المولى تعالى إلى ﴿الاُمِّيِّينَ﴾: ﴿مِنْهُمْ﴾، وَعَطَفَهُمْ عليهم ليسري على هؤلاء ما سرى على أولئك السابقين بإيمان، وشرَّفَهُم النبي الشَّيِقُ بِأُخُوَّته لهم: ""وَدِدْتُ أَنِّي رَأَيْتُ إِخْوَانِي". قالوا: أَوَلَسْنَا إِخْوَانَكَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَال: "بَلْ أَنْتُمْ أَصْحَابِي؛ وَإِخْوَانِي الَّذِينَ لَمْ يَأْتُوا بَعْدُ"" [1] ﴿ ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُوتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ﴾
الوظيفة المتجددة
ابتعث الله الأنبياء والمرسلين يُؤَيِّدُ اللاحقُ منهم دعوةَ إيمانِ ودينَ من سبق يُؤَكِّدُهما وَيُجَدِّدُهما، فلما ختم سبحانه الْعِقْدَ النورانِيَّ بواسطته حَمَلَ اللواءَ وَوَرِثَ الأمانةَ عنه وارثون مُجَدِّدُون ليسري نورُه صلى الله عليه وسلم ونورُ الْوَحْيَيْنِ إلى قلوب الخلق يهتدي بهما المهتدون أبد الدهر.
تجديد للإيمان وللدين؟!
وهل يَبْلَى الإيمان والدين ليحتاجا إلى تجديد؟!
يقول صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ الإِيـمَانَ يَخْلُقُ فِي القَلْبِ كَمَا يَخْلُقُ الثَّوْبُ فَجَدِّدُوا إِيمانَكُمْ" [2] ". وفي رواية: ﴿ إِنَّ الإِيـمَانَ لَيَخْلُقُ فِي جَوْفِ أَحَدِكُمْ كَمَا يَخْلُقُ الثَّوْبُ فَاسْأَلُوا اللهَ تَعَالَى أَنْ يُجَدِّدَ الإِيـمَانَ فِي قُلُوبِكُمْ﴾ [3] .
تَأَمَّل بيانه صلى الله عليه وسلم في عبارة: "فِي الْقَلْبِ" وعبارة: "فِي جَوْفِ أَحَدِكُمْ"!!!
الإيمان ليس صناعةً بشريةً أو إنتاجاً أرضيّاً[4] وإن اعتنقه بشرٌ وحَمَلَتْهُ أوعيةٌ أرضية. والإيمان ليس ثمرة من ثمرات التاريخ أو إفرازاً من إفرازاته وإن كان عاملاً حاسما في صيرورته. إنما الإيمان معنىً سَامٍ سماويُّ المنبع، ورزقٌ مبارَكٌ عُلْوِيُّ الأصل، وماءٌ سلسبيل فِرْدَوْسِيُّ الْمَعِين، ولكنَّ هذا الماءَ يَتَقَمَّصُ صفةَ الوعاء (النفْس) الذي يحتويه، وذلك المعنى يَتَجَنَّسُ بجنسية الْمْوَطِن (القلب) الذي يقيم فيه، وذلك الرزقَ يتأثر بطبيعة الأرض (الروح) التي ينبت فيها وينطلق منها قوةً أو ضعفاً أو موتاً، وزيادةً أو نقصاناً أو حرماناً، وحرارةً أو فتوراً أو جموداً بحسب مقام العبد من الإيمان أو تَمَكُّنِ الإيمان منه وبحسب حصيلته من شُعَبِه ومُجَدِّدَاتِه.
ومثل الإيمان في قلب ابن آدم كمثل الفتيلة: تشتعل وتَتَّقِدُ وتَشُبُّ ويزيد تَأَجُّجُهَا حتى تصير جاحِمَةً كلما أَذْكَاهَا بالْمَدَدِ من الحطب شَبُوباً لألسنتها، وتخمد وتخبو حتى تصير هامِدةً هَابِيَةً إن لم يَمُدَّهَا منه بشيء.
نعم، دين الله ربَّانِيُّ المصدر، ودينُ الله إنما جاء ليذكِّرَ بني آدم بالعهد الفطري القديم الذي أُخِذَ عليهم قبل أن يهبط أبوهم إلى الأرض، ولكنه تعالى استأمن على دينه بَشَراً يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق خَصَّهُم بالوحي هم أنبياؤُه ومُرْسَلُوه، حتى إذا نَضِجَتِ البشريةُ نُضْجاً خَتَمَ الرسالةَ والنبوةَ وبَعَثَ مِنْ خلقه عَلَى رَأْسِ كُلِّ مائَةِ سَنةٍ مَنْ يَرِثُ أمانَتَهما ويجدد وظيفتَهُمَا. قال صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ اللهَ يَبْعَثُ لِهَذِهِ الأُمَّةِ عَلَى رَأْسِ كُلِّ مائَةِ سَنةٍ مَنْ يُجَدِّدُ لَهَا دِينَهَا" [5] .
الإيمان -بما هو معنىً ربَّانِيٌّ- لا يَخْلُقُ كما يخلقُ الثوب، ودينُ الله -متمثِّلاً في الْوَحْيَيْنِ: (الكتاب والحكمة)- لا يَبْلَى. حاشاهما. ولكنَّ بِلَى الأَجْوَافِ وعِلَلَ القلوبِ والأوعيةِ هي التي تُعْيِي وتضعف معنى الإيمان فيها (تَأَمَّل بيانه صلى الله عليه وسلم في عبارة: "فِي الْقَلْبِ" وعبارة: "فِي جَوْفِ أَحَدِكُمْ"!!!) فتحتاج إلى التّرياق الشافي والطبيب الْمُعَافِي بإذن ربه. وطولُ الأمد على الأمة -حُبّاً للدنيا وكراهيةً للموت- يَنْخُرُ قُوَاهَا فيُعْجِزُها عن حمل الأمانة فتحتاج إلى من يستنهضها بتجديد دينها بما هو امتدادٌ لِمَدَدِ النبوة ولروح الرسالة.
وهذا هو المقصود بتجديد الدين وبتجديد الإيمان: بَعْثُ "خَلْقٍ جديد" تستطيع أوعيتُه بصفائها وأجوافُه بأصالتها وقلوبُه بنقائها أن تحمل هذا الدين العظيم بِوَحْيَيْهِ بقوة وأمانة.
تاريخ النشر: الثلاثاء 23 يونيو/حزيران 2009
[1] رواه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[2] - خَلُقَ الثوبُ وأَخْلَقَ خُلوقَةً: بَلِيَ بِلىً.
رواه الإمام أحمد وحسَّنه السيوطي.
[3] رواه الطبراني في "الكبير" والحاكم في "المستدرك".
[4] بل إن هذه الأرزاق التي تخرجها الأرض إنما هي عُلْوِيَّة الأصل لا أرْضِيَّتُه: ﴿وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ﴾ (الذاريات: 22).
[5] رواه أبو داود والبيهقي والحاكم بسند صحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه